الحب روح الإيمان
للكاتب : ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال ابن القيم –رحمه الله- في المحبة:
"منزلة المحبة، وهي المنزلة التي تنافس فيها المتنافسون، وإليها شخص
العاملون، وإلى عَلَمها شمَّر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبرَوحِ
نسيمها تَرَوَّح العابدون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون،
وهي الحياة التي من حُرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي مَن فقده فهو
في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلَّت بقلبه جميع الأسقام، واللذة
التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام.
وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال، التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه".
قوله: "فهي قوتُ القلوب" أي: غذاؤها الذي
تحيا به، "وغذاء الأرواح" فتنمو وتكبر وتتسع، وتنشرح الصدور بحب الله
-سبحانه وتعالى-، "وقرة العيون" إمَّا أنها بمعنى: تستقر، أي: فلا تطمع ولا
تتطلع إلى غير ما استقرت به، أو أنها بمعنى تبرد؛ لأن العين الحارَّة
باحثة عن شيء فقدته، فإذا وجدته بردت، فكأن الإنسان لا يزال دائرًا يبحث عن
شيء يفتقده كما يبحث البدن عن الطعام والشراب، فكذلك القلب الإنساني؛ يظل
باحثًا عن حب الله -سبحانه وتعالى-، فإذا وجده استقر ولم يطَّلع إلى ما
وراء ذلك.
وقوله: "وهي الحياة التي من حُرمها فهو من
جملة الأموات" فكل من لم يجد حبَّ الله -سبحانه وتعالى- فهو ميت، "والنور
الذي من فقده فهو في بحار الظلمات" فمن لم يذق حبَّ الله -سبحانه وتعالى-
لن يبصر حقيقة هذا الوجود ولا مآل هذه الحياة، ولن يعرف أعظم ما يُتلذذ به
في هذه الدنيا ثم في الآخرة، وهو الشوق إلى لقائه -عز وجل-؛ لأنه نابع من
حبه -سبحانه وتعالى-، ولذة الشوق إلى لقاء الله -عز وجل- من جنس لذة النظر
إلى وجهه -سبحانه وتعالى-؛ لأن كلاً منهما ثمرة القرب والمحبة، ومن هنا
كانت عبادة الله -عز وجل- ـ والتي أصلها الحب ـ أعظم ما يتنعم به أهل
الدنيا، كما أن أعظم ما يتنعم به أهل الآخرة النظر إلى وجهه -عز وجل-
والتمتع برضاه، وقد جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعائه بين أعظم لذة
في الدنيا وأعظم لذة في الآخرة فقال -صلى الله عليه وسلم-: «وَأَسْأَلُكَ
لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي
غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ» [رواه النسائي وصححه الألباني].
وقوله: "والشفاء الذي من عدمه حلَّت بقلبه
جميع الأسقام"، فحب الله -سبحانه وتعالى- شفاء للقلوب من الأمراض، وبدونها
يمتلئ القلب بالكبر والعُجب والحسد والغِل، وينطق اللسان بالغيبة والنميمة
والكذب، وتنحط إرادة الإنسان إلى أتفه الأغراض وأخسِّها؛ لأنه لم يذق حب
الله -سبحانه وتعالى-، فيصبح القلب محلاً لهذه الأمراض، فتجد الإنسان لا
يريد من الدنيا إلا الشهوة أو المال أو الشهرة، ولا يريد إلا الأغراض
الخبيثة، فيمرض القلب أعظم المرض بدون حب الله -عز وجل-، وهذا حال القلوب
التي لم تعرف طريقًا إلى حب الله -سبحانه وتعالى-.
قوله: "واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله
هموم وآلام"، فمن لم يجد لذة حب الله -سبحانه وتعالى- فلن يجد إلا التعب
والشقاء والنكد، ويصير عيشه كله هموم وآلام، حتى وإن وجد اللذات الظاهرة؛
فسعادة الإنسان ليست في اللذات الظاهرة؛ لأنها لا تبقى معه إلا لحظات، مثل
لذة الجنس التي يجدها الإنسان ثوانٍ معدودة، وكذلك الطعام والشراب يجد لذته
لحظات قليلة وبعدها يَمَلُّ الطعامَ والشرابَ.
وكذلك غيرها من اللذات الأخرى التي مردُّها إلى الأمراض القلبية، مثل
التلذذ بالشهرة والمدح والرياسة والتكبر على الخلق والجبروت، وهي في
الحقيقة آلامٌ،وعلاماتٌ على المرض، وشقاءٌ للإنسان، فيَشقى بها ويُشقِي مَن
حوله، وأتعس الناس به من يجاوره، فكيف بنفسه التي بين جنبيه؟! فهو أتعس
خلق الله -عز وجل- إذا وُجدت فيه هذه الآلام والأمراض والعياذ بالله،
فتلذُّذه أشد ضررًا عليه من تلذذ الجَرِب بحكِّ جسمه، فهو يُمزِّقُ نفسه
ليجد بذلك راحة لحظية يزداد بها تقطيعًا لجلده وتعذيبًا لنفسه، وهذه هي حال
من ابتعد عن الله -عز وجل- ولم يجد حبَّه -سبحانه وتعالى-.
وقوله: "وهي رُوح الإيمان"، شبَّه الإيمان
بجسد له رُوح، فكما أن الإيمان هو حياة القلب؛ فكذلك رُوح الإيمان هي
المحبة، فبدون المحبة لا يكون هناك إيمان.
قال -رحمه الله-: "وهي روح الإيمان والأعمال،
والمقامات والأحوال" فالعمل بغير محبة عملٌ جافٌّ غيرُ مقبول، لا يؤثِّر
في صاحبه، فلذلك ينبغي أن تكون هذه الأمور محلَّ اهتمام المؤمن الصادق، لا
أن ينحصر اهتمامه في الأعمال الظاهرة فقط دون أن يبحث في قلبه عن أسباب
صلاحه وفلاحه، فالعمل بدون حب كالجسد الميت، فكما أن الإيمان رُوحه المحبة؛
فكذلك هي رُوح الأعمال.
أما "المقامات والأحوال" فهي أعمال القلوب الأخرى، فالمقام: شيء ثابت،
والحال: أمر يأتي على القلب ويذهب، وهو أقرب ما قيل في هذا الاصطلاح، وهو
اصطلاح صوفيٌّ في الحقيقة، لكن يمكن أن يُستعمل طالما أن المعنى ثابت،
ومقصودهم منه: تفاوت الناس في الأعمال الظاهرة والباطنة، فمنهم من يكون
عمله ديمة كما قالت عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً» [رواه البخاري ومسلم]، و«كَانَ إِذَا عَمِلَ عَمَلاً أَثْبَتَهُ» [رواه مسلم]، فهذا صاحب مقام، ولما سئل -صلى الله عليه وسلم-: أي الأعمال أحبُّ إلى الله؟ قال: «أَدْوَمُهَا، وَإِنْ قَلَّ» [رواه البخاري ومسلم]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «يَا عَبْدَ الله لا تَكُنْ مِثْلَ فُلانٍ؛ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ» [رواه البخاري ومسلم].
فالحال من التحوُّل، أما المقام فثابت، فصاحب الأحوال من تأتيه لحظات يجد
فيها العبادة القلبية، وصاحب المقام من استقرَّ حاله على ذلك، وصار يجد هذا
الأمر على الدوام ليلاً ونهارًا، صيفًا وشتاءً، فمن الناس من لا يجد لذة
المحبة إلا في رمضان أو في الحج مثلاً.
فالمحبةُ بالنسبة إلى المقامات والأحوال وبالنسبة إلى أعمال القلوب الأخرى
كالرُوح بالنسبة إلى الجسد، فبدون المحبة لن يكون هناك شكر أو صبر أو محبة
أو رجاء أو توكل، ولن توجد أنواع من العبادات، لا أحيانًا ولا على الدوام.
وللحديث عن الحب بقية إن شاء الله.
إن المحبين للأحباب خُدَّام
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال ابن القيم -رحمه الله- في المحبة:
"تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشقِّ الأنفس بالغيها،
وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدًا واصليها، وتبوئهم من مقاعد الصدق
مقامات لم يكونوا لولاها داخليها".
قوله: "تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم
يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها"، المؤمنون يريدون الجنة، ولكن هناك أثقال
تبطئ سيرهم، ولو حملوها بأنفسهم ما استطاعوا السير،فهذا مَثَلُ ثقل
التكاليف، فكل إنسان يميل بطبعه إلى الكسل وإن كان يريد الوصول إلى الجنة،
لكن هذا الطريق يقتضي أن يصوم النهار، وأن يقوم الليل، وأن يضحيَ بجاهه من
أجل إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يطلب العلم، وأن ينتقل عن
داره وأهله، وأن ينفق الأموال، وأن يضحي بنفسه وماله لإقامة الجهاد في سبيل
الله -عز وجل-، وكلها طاعات شاقة على النفوس إلا على المحب الذي يبذلها
سماحة.
قال فتح الموصليُّ: "المحبُّ لا يجد مع حب الله -عز وجل- للدنيا لذةً، ولا يغفل عن ذكر الله طرفة عين"، وقال محمد بن النضر الحارثي:
"ما يكاد يملُّ القربة إلى الله تعالى محبٌّ لله -عز وجل-، وما يكاد يسأم
من ذلك"، وقال بعضهم: "المحب لله طائرُ القلب، كثيرُ الذكر، متسببٌ إلى
رضوانه بكل سبيلٍ يقدر عليها من الوسائل والنوافل دَوْبًا دَوْبًا، وشوقًا
شوقًا"، وأنشد بعضهم:
وكن لربِّك ذا حبٍّ لتخدمَه *** إن المحبين للأحباب خُدَّامُ
وأنشد آخر:
ما للمُحبِّ سوى إرادةِ حبِّه *** إنَّ المُحبَّ بكلِّ برٍّ يَضـرَعُ
فهذه المحبةُ حملت أثقالهم وأوصلتهم بسهولة ويُسر إلى منازلهم التي يريدون
الوصول إليها، ولذلك سَهُل عليهم أن يقوموا الليل، وأن يصوموا النهار، وأن
يأمروا بالمعروف، وأن ينهوا عن المنكر، وأن يبذلوا كل شيء بانشراح صدر، وهم
مع ذلك لم يروا أنهم قدَّموا كثيرًا.
أما من يرى أنه قد بذل وضحَّى فإن رؤيته لتضحيته وبذله نابعة من عدم ذوقه
روح المحبة وحقيقتها، فما مثله إلا مثل من يقول: تركت الخشبة من أجل
الجوهرة، فهل يقول عاقل أن هذا الشخص يعرف قدر الجوهرة؟ وما قيمة خشبة مع
جوهرة ثمينة؟!
ومنبع شعور الإنسان بأنه بذل وضحَّى كثيرًا إنما هو من عدم وجود المحبة
الصادقة؛ إذ هي التي تجعل الإنسان يبذل سماحةً، ويهون عليه كل شيء، ويبذله
بسهولة، وبذلك يسهل عليهم أمرهم، ويجدون لذة العبادة، ولا يشعرون بمشاقِّ
العبادة وتعبها، بل سهل الأمر بالمحبة، وهذا لأن من وجد المحبة بأسبابها
سهلت عليه كل العبادات.
وكذلك الحال في ترك المعاصي؛ لا يرى أنه قد بذل جهدًا كبيرًا في تركها؛
لحبه لله -عز وجل-، وإنما يعاني الإنسان مع نفسه ويعسر عليه قيادها إلى
طاعة الله -سبحانه وتعالى- وإبعادها عن المعصية لأنه لم يذق المحبة بعد،
فلذلك لابد له من دوام قرع باب المحبة حتى يُفتح له، وعليه أن يبذل جهده
حتى يجدها، ولكن يصدق في الأسباب الجالبة للمحبة، ولذلك قال -رحمه الله-:
"وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدًا واصليها"، فقد يكون العبد قليل
العبادة، لكن مع المحبة يصل إلى منازل ما كان ليصل إليها دون المحبة، فهذا كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ركعتان مقتصدتان في تَفكُّرٍ خيرٌ من قيام ليلة والقلب ساهٍ" (انظر: (تفسير ابن كثير) (2/185))، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلا الجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلا السَّهَرُ» [رواه ابن ماجه وصححه الألباني]؛ وذلك لأنه لم يكن في عبادته المحبة الصادقة، فمنازل المحبين لا يمكن أن يصلوا إليها إلا بالمحبة.
قوله -رحمه الله-: "وتبوئهم من مقاعد الصدق
مقامات لم يكونوا لولاها داخليها" أي: تنزلهم من مقاعد الصدق عند الله في
الآخرة مقاعدَ أهل الحق التي لم يكونوا ليدخلوا إليها إلا بالحب.
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
مطايا المحبين إلى الحبيب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال ابن القيم –رحمه الله- في المحبة:
"وهي مطايا القوم التي سراهم على ظهورها دائمًا إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب.
تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة؛ إذ لهم من محبة محبوبهم أوفر
نصيب، وقد قضى الله يوم قدر مقادير الخلائق ـ بمشيئته وحكمته البالغة ـ أن
المرء مع من أحب، فيا لها من نعمة على المحبين سابغة".
قوله -رحمه الله-: "وهي مطايا القوم التي
سراهم على ظهورها دائمًا إلى الحبيب"، السرى هو سيرُ عامةِ الليل، وهذا
لصعوبة السير في وقت نوم الناس، فكذلك السابق إلى الله -عز وجل-، كما في
الحديث: «وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلـْجَةِ»
[رواه البخاري]، فالدلجة: السير ليلاً، فهذا تشبيه لمن يسير في فترة الظلم
والفساد وعلوِّ الباطل بمن يسير في فترة الظلمة، وبعد شروق الشمس سوف يسير
كل الناس عندما يدخلون في دين الله أفواجًا، وذلك حين يأتي زمانٌ على
الناس يلتزمون فيه بدين الله -عز وجل-، لكنَّ السابقَ من سار ليلاً قبل أن
يستيقظ الناسُ، والسابق من عبَدَ الله قبل أن يعبده الناس، والتزم الالتزام
الصادق قبل أن يلتزموا، ولذلك سبق المهاجرون الأنصارَ؛ لأنهم أسلموا في
فترة الاستضعاف والآلام، وقبل أن يروا في الأفق بوادر الانتصار والتمكين،
وكان أقصى ما يتمنونه مكانًا يأوون إليه، فكانت المدينة -مع ما كان فيها من
مخاطر- أقل شدة مما كان في مكة في فترة الاستضعاف.
فالمحبة للمحبِّ الصادقِ كالمطية التي يركبها، فيسهُل عليه أن يعمل في فترة
بُعدِ الناسِ عن الدين، وأن يعمل لله في وادٍ لا يعمل فيه أحدٌ، فتجد
الظلام يعم الدنيا والفساد يملأ الأرض والكفر والظلم والنفاق يغشى الناس
جميعًا وهو يعمل لله -عز وجل-، يدفعه الحب إلى ذلك، ويسهل عليه أمره فيسير
بلا تعب.
ومن كان صادقًا في الحب عملَ ولم يلتفت إلى أحدٍ، حتى إن كان الناس جميعًا
يسيرون في غير طريقه ولم يجد من يعينه فإنه يسير إلى الله -عز وجل- ويعمل
بالإسلام ومن أجله، ولو لم يجد أحدًا يعمل.
وقوله: "وطريقهم الأقوم الذي يُبلِّغهم إلى منازلهم الأولى من قريب"، الجنة
هي منازل الإنسان الأولى التي لا يزال مشتاقًا إليها، فلا يزال في قلبه
دافع يدفعه ويحضه على الرجوع إليها؛ لأن الجنة هي مسكنه الأول، أما الدنيا
فإنها لم تكن لحيٍّ أبدًا مستقرًا، وإنما يبقى فيها مدة ثم يرحل.
وأقصر الطرق بين نقطتين هو الخط المستقيم، كذلك أقصر الطرق التي تؤدي إلى
الجنة ـ المنزل الأول ـ حبُّ الله -عز وجل-، فحبُّ الله -سبحانه وتعالى- هو
الصراط المستقيم القصير الثابت الذي يوصلك إلى الجنة، كما قيل:
من لي بمثل سيرك المدلل *** تمشـي رويدًا وتجي في الأول
يعني أن المحب الصادق هو أول الناس وصولاً إلى ربه -سبحانه وتعالى- في
الآخرة، أما غيره فيتخبط في طرق الدنيا الملتوية المليئة بقطاع الطرق،
فالمحبُّ يسير سيرًا فيه الراحة في الدنيا، ويوم القيامة ينال أعلى
المنازل، وغيره من أهل الدنيا متعبٌ في الدنيا والآخرة.
وقوله -رحمه الله-: "تالله، لقد ذهب أهلها
بشرف الدنيا والآخرة؛ إذ لهم من محبة محبوبهم أوفر نصيب، وقد قضى الله يوم
قدر مقادير الخلائق ـ بمشيئته وحكمته البالغة ـ أن المرء مع من أحب، فيا
لها من نعمة على المحبين سابغة"، عن أنس -رضي الله عنه- أن رجلاً سأل النبي
-صلى الله عليه وسلم- عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ فقال -صلى الله عليه
وسلم-: «وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟»، فقال: لا شيءَ، إلا أنِّي أحب الله ورسوله، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ»، قال أنس -رضي الله عنه-: "فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ»"
[رواه البخاري ومسلم]، فرح الصحابةُ أعظم الفرح حينما سمعوا هذه الجملة من
النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنهم يحبون الله -عز وجل- وملائكته ورسله
وعباد الله الصالحين، وإن لم يعملوا بعملهم.
فإذا كنت صادقًا في الحب فأنت مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين،
وكنتَ مع رب العالمين؛ معيةَ محبة ورعاية وتكريم، ومعية إعزاز وإعلاء؛ فقد
قضى الله -عز وجل- بحكمته البالغة أن المرء مع من أحب، ولذا كان من أعظم
الخطر على الإنسان أن يحب الكفرة والظلمة والعصاة، بل قد يدعو بعض الناس
إلى حب اليهود والنصارى ومودتهم، ويراهم مؤمنين يشهد لهم بالجنة، ثم لا
يخشون أن يكونوا معهم في الآخرة، نسأل الله العافية.
والمحبة لا توصف ولا تُعرَّف، إنما يعرفها من وجدها وذاقها، فالمحبة لا
تحتاج إلى تفسير، وقد يفسِّرها البعض بالطاعة، وليس بصحيح؛ لأن الطاعة من
لوازم المحبة وموجباتها، ولا يكون صادقًا في محبته من لم يُطِع، وإنما
المحبة هي المحبة، لا يعرفُها إلا من ذاقها ووجدها، وإنما الذي ينبغي البحث
فيه هو أسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها؛ إذ الحب أمر يجده الإنسان
ويعرفه ويتحقق معناه في قلبه.
للكاتب : ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال ابن القيم –رحمه الله- في المحبة:
"منزلة المحبة، وهي المنزلة التي تنافس فيها المتنافسون، وإليها شخص
العاملون، وإلى عَلَمها شمَّر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبرَوحِ
نسيمها تَرَوَّح العابدون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون،
وهي الحياة التي من حُرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي مَن فقده فهو
في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلَّت بقلبه جميع الأسقام، واللذة
التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام.
وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال، التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه".
قوله: "فهي قوتُ القلوب" أي: غذاؤها الذي
تحيا به، "وغذاء الأرواح" فتنمو وتكبر وتتسع، وتنشرح الصدور بحب الله
-سبحانه وتعالى-، "وقرة العيون" إمَّا أنها بمعنى: تستقر، أي: فلا تطمع ولا
تتطلع إلى غير ما استقرت به، أو أنها بمعنى تبرد؛ لأن العين الحارَّة
باحثة عن شيء فقدته، فإذا وجدته بردت، فكأن الإنسان لا يزال دائرًا يبحث عن
شيء يفتقده كما يبحث البدن عن الطعام والشراب، فكذلك القلب الإنساني؛ يظل
باحثًا عن حب الله -سبحانه وتعالى-، فإذا وجده استقر ولم يطَّلع إلى ما
وراء ذلك.
وقوله: "وهي الحياة التي من حُرمها فهو من
جملة الأموات" فكل من لم يجد حبَّ الله -سبحانه وتعالى- فهو ميت، "والنور
الذي من فقده فهو في بحار الظلمات" فمن لم يذق حبَّ الله -سبحانه وتعالى-
لن يبصر حقيقة هذا الوجود ولا مآل هذه الحياة، ولن يعرف أعظم ما يُتلذذ به
في هذه الدنيا ثم في الآخرة، وهو الشوق إلى لقائه -عز وجل-؛ لأنه نابع من
حبه -سبحانه وتعالى-، ولذة الشوق إلى لقاء الله -عز وجل- من جنس لذة النظر
إلى وجهه -سبحانه وتعالى-؛ لأن كلاً منهما ثمرة القرب والمحبة، ومن هنا
كانت عبادة الله -عز وجل- ـ والتي أصلها الحب ـ أعظم ما يتنعم به أهل
الدنيا، كما أن أعظم ما يتنعم به أهل الآخرة النظر إلى وجهه -عز وجل-
والتمتع برضاه، وقد جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعائه بين أعظم لذة
في الدنيا وأعظم لذة في الآخرة فقال -صلى الله عليه وسلم-: «وَأَسْأَلُكَ
لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي
غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ» [رواه النسائي وصححه الألباني].
وقوله: "والشفاء الذي من عدمه حلَّت بقلبه
جميع الأسقام"، فحب الله -سبحانه وتعالى- شفاء للقلوب من الأمراض، وبدونها
يمتلئ القلب بالكبر والعُجب والحسد والغِل، وينطق اللسان بالغيبة والنميمة
والكذب، وتنحط إرادة الإنسان إلى أتفه الأغراض وأخسِّها؛ لأنه لم يذق حب
الله -سبحانه وتعالى-، فيصبح القلب محلاً لهذه الأمراض، فتجد الإنسان لا
يريد من الدنيا إلا الشهوة أو المال أو الشهرة، ولا يريد إلا الأغراض
الخبيثة، فيمرض القلب أعظم المرض بدون حب الله -عز وجل-، وهذا حال القلوب
التي لم تعرف طريقًا إلى حب الله -سبحانه وتعالى-.
قوله: "واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله
هموم وآلام"، فمن لم يجد لذة حب الله -سبحانه وتعالى- فلن يجد إلا التعب
والشقاء والنكد، ويصير عيشه كله هموم وآلام، حتى وإن وجد اللذات الظاهرة؛
فسعادة الإنسان ليست في اللذات الظاهرة؛ لأنها لا تبقى معه إلا لحظات، مثل
لذة الجنس التي يجدها الإنسان ثوانٍ معدودة، وكذلك الطعام والشراب يجد لذته
لحظات قليلة وبعدها يَمَلُّ الطعامَ والشرابَ.
وكذلك غيرها من اللذات الأخرى التي مردُّها إلى الأمراض القلبية، مثل
التلذذ بالشهرة والمدح والرياسة والتكبر على الخلق والجبروت، وهي في
الحقيقة آلامٌ،وعلاماتٌ على المرض، وشقاءٌ للإنسان، فيَشقى بها ويُشقِي مَن
حوله، وأتعس الناس به من يجاوره، فكيف بنفسه التي بين جنبيه؟! فهو أتعس
خلق الله -عز وجل- إذا وُجدت فيه هذه الآلام والأمراض والعياذ بالله،
فتلذُّذه أشد ضررًا عليه من تلذذ الجَرِب بحكِّ جسمه، فهو يُمزِّقُ نفسه
ليجد بذلك راحة لحظية يزداد بها تقطيعًا لجلده وتعذيبًا لنفسه، وهذه هي حال
من ابتعد عن الله -عز وجل- ولم يجد حبَّه -سبحانه وتعالى-.
وقوله: "وهي رُوح الإيمان"، شبَّه الإيمان
بجسد له رُوح، فكما أن الإيمان هو حياة القلب؛ فكذلك رُوح الإيمان هي
المحبة، فبدون المحبة لا يكون هناك إيمان.
قال -رحمه الله-: "وهي روح الإيمان والأعمال،
والمقامات والأحوال" فالعمل بغير محبة عملٌ جافٌّ غيرُ مقبول، لا يؤثِّر
في صاحبه، فلذلك ينبغي أن تكون هذه الأمور محلَّ اهتمام المؤمن الصادق، لا
أن ينحصر اهتمامه في الأعمال الظاهرة فقط دون أن يبحث في قلبه عن أسباب
صلاحه وفلاحه، فالعمل بدون حب كالجسد الميت، فكما أن الإيمان رُوحه المحبة؛
فكذلك هي رُوح الأعمال.
أما "المقامات والأحوال" فهي أعمال القلوب الأخرى، فالمقام: شيء ثابت،
والحال: أمر يأتي على القلب ويذهب، وهو أقرب ما قيل في هذا الاصطلاح، وهو
اصطلاح صوفيٌّ في الحقيقة، لكن يمكن أن يُستعمل طالما أن المعنى ثابت،
ومقصودهم منه: تفاوت الناس في الأعمال الظاهرة والباطنة، فمنهم من يكون
عمله ديمة كما قالت عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً» [رواه البخاري ومسلم]، و«كَانَ إِذَا عَمِلَ عَمَلاً أَثْبَتَهُ» [رواه مسلم]، فهذا صاحب مقام، ولما سئل -صلى الله عليه وسلم-: أي الأعمال أحبُّ إلى الله؟ قال: «أَدْوَمُهَا، وَإِنْ قَلَّ» [رواه البخاري ومسلم]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «يَا عَبْدَ الله لا تَكُنْ مِثْلَ فُلانٍ؛ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ» [رواه البخاري ومسلم].
فالحال من التحوُّل، أما المقام فثابت، فصاحب الأحوال من تأتيه لحظات يجد
فيها العبادة القلبية، وصاحب المقام من استقرَّ حاله على ذلك، وصار يجد هذا
الأمر على الدوام ليلاً ونهارًا، صيفًا وشتاءً، فمن الناس من لا يجد لذة
المحبة إلا في رمضان أو في الحج مثلاً.
فالمحبةُ بالنسبة إلى المقامات والأحوال وبالنسبة إلى أعمال القلوب الأخرى
كالرُوح بالنسبة إلى الجسد، فبدون المحبة لن يكون هناك شكر أو صبر أو محبة
أو رجاء أو توكل، ولن توجد أنواع من العبادات، لا أحيانًا ولا على الدوام.
وللحديث عن الحب بقية إن شاء الله.
إن المحبين للأحباب خُدَّام
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال ابن القيم -رحمه الله- في المحبة:
"تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشقِّ الأنفس بالغيها،
وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدًا واصليها، وتبوئهم من مقاعد الصدق
مقامات لم يكونوا لولاها داخليها".
قوله: "تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم
يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها"، المؤمنون يريدون الجنة، ولكن هناك أثقال
تبطئ سيرهم، ولو حملوها بأنفسهم ما استطاعوا السير،فهذا مَثَلُ ثقل
التكاليف، فكل إنسان يميل بطبعه إلى الكسل وإن كان يريد الوصول إلى الجنة،
لكن هذا الطريق يقتضي أن يصوم النهار، وأن يقوم الليل، وأن يضحيَ بجاهه من
أجل إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يطلب العلم، وأن ينتقل عن
داره وأهله، وأن ينفق الأموال، وأن يضحي بنفسه وماله لإقامة الجهاد في سبيل
الله -عز وجل-، وكلها طاعات شاقة على النفوس إلا على المحب الذي يبذلها
سماحة.
قال فتح الموصليُّ: "المحبُّ لا يجد مع حب الله -عز وجل- للدنيا لذةً، ولا يغفل عن ذكر الله طرفة عين"، وقال محمد بن النضر الحارثي:
"ما يكاد يملُّ القربة إلى الله تعالى محبٌّ لله -عز وجل-، وما يكاد يسأم
من ذلك"، وقال بعضهم: "المحب لله طائرُ القلب، كثيرُ الذكر، متسببٌ إلى
رضوانه بكل سبيلٍ يقدر عليها من الوسائل والنوافل دَوْبًا دَوْبًا، وشوقًا
شوقًا"، وأنشد بعضهم:
وكن لربِّك ذا حبٍّ لتخدمَه *** إن المحبين للأحباب خُدَّامُ
وأنشد آخر:
ما للمُحبِّ سوى إرادةِ حبِّه *** إنَّ المُحبَّ بكلِّ برٍّ يَضـرَعُ
فهذه المحبةُ حملت أثقالهم وأوصلتهم بسهولة ويُسر إلى منازلهم التي يريدون
الوصول إليها، ولذلك سَهُل عليهم أن يقوموا الليل، وأن يصوموا النهار، وأن
يأمروا بالمعروف، وأن ينهوا عن المنكر، وأن يبذلوا كل شيء بانشراح صدر، وهم
مع ذلك لم يروا أنهم قدَّموا كثيرًا.
أما من يرى أنه قد بذل وضحَّى فإن رؤيته لتضحيته وبذله نابعة من عدم ذوقه
روح المحبة وحقيقتها، فما مثله إلا مثل من يقول: تركت الخشبة من أجل
الجوهرة، فهل يقول عاقل أن هذا الشخص يعرف قدر الجوهرة؟ وما قيمة خشبة مع
جوهرة ثمينة؟!
ومنبع شعور الإنسان بأنه بذل وضحَّى كثيرًا إنما هو من عدم وجود المحبة
الصادقة؛ إذ هي التي تجعل الإنسان يبذل سماحةً، ويهون عليه كل شيء، ويبذله
بسهولة، وبذلك يسهل عليهم أمرهم، ويجدون لذة العبادة، ولا يشعرون بمشاقِّ
العبادة وتعبها، بل سهل الأمر بالمحبة، وهذا لأن من وجد المحبة بأسبابها
سهلت عليه كل العبادات.
وكذلك الحال في ترك المعاصي؛ لا يرى أنه قد بذل جهدًا كبيرًا في تركها؛
لحبه لله -عز وجل-، وإنما يعاني الإنسان مع نفسه ويعسر عليه قيادها إلى
طاعة الله -سبحانه وتعالى- وإبعادها عن المعصية لأنه لم يذق المحبة بعد،
فلذلك لابد له من دوام قرع باب المحبة حتى يُفتح له، وعليه أن يبذل جهده
حتى يجدها، ولكن يصدق في الأسباب الجالبة للمحبة، ولذلك قال -رحمه الله-:
"وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدًا واصليها"، فقد يكون العبد قليل
العبادة، لكن مع المحبة يصل إلى منازل ما كان ليصل إليها دون المحبة، فهذا كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ركعتان مقتصدتان في تَفكُّرٍ خيرٌ من قيام ليلة والقلب ساهٍ" (انظر: (تفسير ابن كثير) (2/185))، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلا الجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلا السَّهَرُ» [رواه ابن ماجه وصححه الألباني]؛ وذلك لأنه لم يكن في عبادته المحبة الصادقة، فمنازل المحبين لا يمكن أن يصلوا إليها إلا بالمحبة.
قوله -رحمه الله-: "وتبوئهم من مقاعد الصدق
مقامات لم يكونوا لولاها داخليها" أي: تنزلهم من مقاعد الصدق عند الله في
الآخرة مقاعدَ أهل الحق التي لم يكونوا ليدخلوا إليها إلا بالحب.
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
مطايا المحبين إلى الحبيب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال ابن القيم –رحمه الله- في المحبة:
"وهي مطايا القوم التي سراهم على ظهورها دائمًا إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب.
تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة؛ إذ لهم من محبة محبوبهم أوفر
نصيب، وقد قضى الله يوم قدر مقادير الخلائق ـ بمشيئته وحكمته البالغة ـ أن
المرء مع من أحب، فيا لها من نعمة على المحبين سابغة".
قوله -رحمه الله-: "وهي مطايا القوم التي
سراهم على ظهورها دائمًا إلى الحبيب"، السرى هو سيرُ عامةِ الليل، وهذا
لصعوبة السير في وقت نوم الناس، فكذلك السابق إلى الله -عز وجل-، كما في
الحديث: «وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلـْجَةِ»
[رواه البخاري]، فالدلجة: السير ليلاً، فهذا تشبيه لمن يسير في فترة الظلم
والفساد وعلوِّ الباطل بمن يسير في فترة الظلمة، وبعد شروق الشمس سوف يسير
كل الناس عندما يدخلون في دين الله أفواجًا، وذلك حين يأتي زمانٌ على
الناس يلتزمون فيه بدين الله -عز وجل-، لكنَّ السابقَ من سار ليلاً قبل أن
يستيقظ الناسُ، والسابق من عبَدَ الله قبل أن يعبده الناس، والتزم الالتزام
الصادق قبل أن يلتزموا، ولذلك سبق المهاجرون الأنصارَ؛ لأنهم أسلموا في
فترة الاستضعاف والآلام، وقبل أن يروا في الأفق بوادر الانتصار والتمكين،
وكان أقصى ما يتمنونه مكانًا يأوون إليه، فكانت المدينة -مع ما كان فيها من
مخاطر- أقل شدة مما كان في مكة في فترة الاستضعاف.
فالمحبة للمحبِّ الصادقِ كالمطية التي يركبها، فيسهُل عليه أن يعمل في فترة
بُعدِ الناسِ عن الدين، وأن يعمل لله في وادٍ لا يعمل فيه أحدٌ، فتجد
الظلام يعم الدنيا والفساد يملأ الأرض والكفر والظلم والنفاق يغشى الناس
جميعًا وهو يعمل لله -عز وجل-، يدفعه الحب إلى ذلك، ويسهل عليه أمره فيسير
بلا تعب.
ومن كان صادقًا في الحب عملَ ولم يلتفت إلى أحدٍ، حتى إن كان الناس جميعًا
يسيرون في غير طريقه ولم يجد من يعينه فإنه يسير إلى الله -عز وجل- ويعمل
بالإسلام ومن أجله، ولو لم يجد أحدًا يعمل.
وقوله: "وطريقهم الأقوم الذي يُبلِّغهم إلى منازلهم الأولى من قريب"، الجنة
هي منازل الإنسان الأولى التي لا يزال مشتاقًا إليها، فلا يزال في قلبه
دافع يدفعه ويحضه على الرجوع إليها؛ لأن الجنة هي مسكنه الأول، أما الدنيا
فإنها لم تكن لحيٍّ أبدًا مستقرًا، وإنما يبقى فيها مدة ثم يرحل.
وأقصر الطرق بين نقطتين هو الخط المستقيم، كذلك أقصر الطرق التي تؤدي إلى
الجنة ـ المنزل الأول ـ حبُّ الله -عز وجل-، فحبُّ الله -سبحانه وتعالى- هو
الصراط المستقيم القصير الثابت الذي يوصلك إلى الجنة، كما قيل:
من لي بمثل سيرك المدلل *** تمشـي رويدًا وتجي في الأول
يعني أن المحب الصادق هو أول الناس وصولاً إلى ربه -سبحانه وتعالى- في
الآخرة، أما غيره فيتخبط في طرق الدنيا الملتوية المليئة بقطاع الطرق،
فالمحبُّ يسير سيرًا فيه الراحة في الدنيا، ويوم القيامة ينال أعلى
المنازل، وغيره من أهل الدنيا متعبٌ في الدنيا والآخرة.
وقوله -رحمه الله-: "تالله، لقد ذهب أهلها
بشرف الدنيا والآخرة؛ إذ لهم من محبة محبوبهم أوفر نصيب، وقد قضى الله يوم
قدر مقادير الخلائق ـ بمشيئته وحكمته البالغة ـ أن المرء مع من أحب، فيا
لها من نعمة على المحبين سابغة"، عن أنس -رضي الله عنه- أن رجلاً سأل النبي
-صلى الله عليه وسلم- عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ فقال -صلى الله عليه
وسلم-: «وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟»، فقال: لا شيءَ، إلا أنِّي أحب الله ورسوله، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ»، قال أنس -رضي الله عنه-: "فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ»"
[رواه البخاري ومسلم]، فرح الصحابةُ أعظم الفرح حينما سمعوا هذه الجملة من
النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنهم يحبون الله -عز وجل- وملائكته ورسله
وعباد الله الصالحين، وإن لم يعملوا بعملهم.
فإذا كنت صادقًا في الحب فأنت مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين،
وكنتَ مع رب العالمين؛ معيةَ محبة ورعاية وتكريم، ومعية إعزاز وإعلاء؛ فقد
قضى الله -عز وجل- بحكمته البالغة أن المرء مع من أحب، ولذا كان من أعظم
الخطر على الإنسان أن يحب الكفرة والظلمة والعصاة، بل قد يدعو بعض الناس
إلى حب اليهود والنصارى ومودتهم، ويراهم مؤمنين يشهد لهم بالجنة، ثم لا
يخشون أن يكونوا معهم في الآخرة، نسأل الله العافية.
والمحبة لا توصف ولا تُعرَّف، إنما يعرفها من وجدها وذاقها، فالمحبة لا
تحتاج إلى تفسير، وقد يفسِّرها البعض بالطاعة، وليس بصحيح؛ لأن الطاعة من
لوازم المحبة وموجباتها، ولا يكون صادقًا في محبته من لم يُطِع، وإنما
المحبة هي المحبة، لا يعرفُها إلا من ذاقها ووجدها، وإنما الذي ينبغي البحث
فيه هو أسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها؛ إذ الحب أمر يجده الإنسان
ويعرفه ويتحقق معناه في قلبه.